.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

الإسراء به إلى المسجد الأقصى المبارك والمعراج إلى السماء والظروف التي سبقت ذلك - الحلقة الثانية والأخيرة

==========================================================

يقول الله تعالى في فاتحة سورة الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الإسراء:1)
وقفت الحلقة السابقة عند حديث عائشة، رضي الله عنها، الذي أجابها فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، بما يفيد أن أشد ما لقيه من قومه كان يوم العقبة، حين رده أهل الطائف بجفاء، فانطلق وهو مهموم على وجهه، وحينها جاءه جبريل، عليه السلام، يخبره أن الله بعث إليه ملك الجبال ليطبق على أعدائه الأخشبين لو شاء، لكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، اختار الرجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله لا شريك له.
وهذا الخبر يفيد أن رحلة الإسراء والمعراج سُبقت بحوادث اتسمت بالشدة والابتلاء، تمثلت بالرد السلبي والفظ الذي لقيه النبي، صلى الله عليه وسلم، من أهل الطائف لما لجأ إليهم مهاجراً طالباً المأوى الآمن لدعوته، وابتلي صلى الله عليه وسلم، على صعيد حمايته والذود عنه، بوفاة زوجه الأولى، وعمه أبي طالب، في عام واحد، واشتد الأمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك كثيراً؛ لأن الكفار تمكنوا من أذيته أكثر مما كان قبل.
ومع استعار هذه الأزمة بلغت دعوة الإسلام مرحلة غاية في الشدة والصعوبة، وفي هذه الأجواء جاءت استضافة النبي، صلى الله عليه وسلم، في السماء، في رحلة ميمونة عجيبة غريبة مؤنسة، حملت له رسالة طمأنة ومؤازرة، تتلخص في أن الأرض إن ضاقت بك وجفتك، فإن السماء تفتح أبوابها لك، في رحلة المعراج التي انطلقت من رحاب المسجد الأقصى المبارك، بعد أن تم الإسراء به صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى بيت المقدس.
وحدث الإسراء والمعراج مثبت بالأدلة الشرعية، ومن دلالات حدوثه في الظروف الصعبة والشاقة التي تعرض لها النبي، صلى الله عليه وسلم، أن للضيق مخرجاً، وبعد العسر يسر، وظلمة الليل تزول ببزوغ نور الفجر وضوء الشمس التالي، واليقين بهذا يفيد في إحلال الأمل، وطرد الإحباط واليأس عن المشاعر والنفوس والمواقف، فمهما بلغت قسوة البطش، فإن الأمل بالنصر والنجاة لا ينقطع، الذي نسأل الله أن يكون قريباً منا ومن شعبنا ووطننا، فقد طفح الكيل، وجاوز الظالمون المدى، وطغوا في البلاد؛ فأكثروا فيها الفساد.
ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في ضوء حادثة الإسراء
يخبر الله جل في علاه في فاتحة سورة الإسراء عن حادثة الإسراء، فيبين أنها تمت بقدرة الله وفعله سبحانه، فنسب الله فعلها إليه ولم ينسبه إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبدأت الآية بلفظ التسبيح {سبحان} وهو يعني التنزيه، ومن دلالات هذا اللفظ وتلك النسبة تهيئة الأذهان إلى أن فعل الإسراء يخضع لمعايير غير معايير الخلق، وبالتالي ينبغي تجنب إخضاعه لتصوراتهم وقناعاتهم العقلية، فالإسراء تم بطريقة وزمن لا يمكن لبشر أن يقوم به فيهما بجهده الذاتي مهما بلغت قدرته.
ومن الأسرار الكامنة في هذه الرحلة الميمونة أنها تمت من محل إقامة النبي، صلى الله عليه وسلم، في مكة المكرمة، إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، وكانت العودة إلى مكان الإقامة في الليلة ذاتها.
والتساؤل الذي يُطرح باستمرار حول هذا الحدث، لماذا كان هذا الاختيار الرباني لمسار هذه الرحلة؟ والإجابة عن هذا التساؤل ينبغي أن تتضمن استنتاجاً منطقياً، يتلخص في التأكيد على الصلة الوثيقة بين المكانين، مكان الإقلاع ومكان الهبوط، الأول رحاب المسجد الحرام في مكة، والثاني رحاب المسجد الأقصى في بيت المقدس، فلو تعلق الأمر بالمعراج فحسب؛ لكان من الممكن أن يتم المنطلق إليه من مكة دون الذهاب إلى بيت المقدس، لكن الله اختار أن يكون المسجد الأقصى المكان الوسيط للوصول من المسجد الحرام إلى السماء، حتى إن الذين أنكروا خبر هذه الحادثة وكذبوه لم يركزوا على المعراج، وإنما انصب تركيزهم على الإسراء، كونهم يمارسون السفر إلى الشام، ويعلمون الجهد والوقت اللازمين لمثل هكذا رحلة، والقرآن الكريم كان تصريحه عن الإسراء لا يحتمل تأويلاً بخلاف المعراج، مما يؤكد أهمية الإسراء، ويوطد الصلة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى المبارك، وبينه وبين السماء التي احتضنت النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي انطلق منه إليها.

معززات الصلة بين المسجدين الحرام والأقصى
من أبرز معززات الصلة الوثيقة بين هذين المسجدين العظيمين، الأحاديث النبوية الصحيحة المثبتة لحقائق دينية وتاريخية، وهي على النحو الآتي:
- ثاني مسجد وضع في الأرض: فعن أبي ذَرٍّ قال: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ ثُمَّ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّهِ، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ)(صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة)
- قبلة المسلمين الأولى: فعن الْبَرَاءِ (أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ)(صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان)
- أحد ثلاثة مساجد تشد إليها الرحال: فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)(صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)
فإذا ما تضافرت هذه المعززات مع كون المسجد الأقصى المبارك، هو مسرى نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، فإن الصلة تبدو وثيقة بين المسجد الحرام في مكة المكرمة، مهبط الوحي، ومنطلق الدعوة الإسلامية، وبين المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وأسرى بنبيه، صلى الله عليه وسلم، إليه من المسجد الحرام، وهو القبلة التي سبقت القبلة الحالية، وهو المسجد الثاني الذي وضع في الأرض لعبادة الله بعد المسجد الحرام.
المسجد الأقصى المبارك أمانة تحرم إضاعتها
المسجد الأقصى المبارك له مكانته المرموقة في دين الإسلام وعقيدة المسلمين، وعلى أهمية المساجد بعامة، فإن المسجد الأقصى يتميز بخصائص وعناية شرعية، ينبغي لمسلمي المعمورة أن يدركوها، وأن يبذلوا الغالي والنفيس للذود عن مسجدهم الذي بارك الله حوله، فالمسجد الأقصى ليس مسجد أبناء القدس وفلسطين وحدهم، وإنما هو مسجد المسلمين كافة، حيثما وجدوا، وواجبهم تجاهه في ظل ما يتعرض له من انتهاكات واعتداءات يتضاعف، وبخاصة في ظل الحصار الشديد المفروض عليه، من الظالمين الذين قال الله تعالى في أمثالهم: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(البقرة: 114) واستهداف المسجد الأقصى بالشر والحصار والخراب ومساجد فلسطين الأخرى يهدف لإطفاء نور الله والصد عن دينه، والله المطلع على خفايا النوايا وتفاصيل الأعمال، يتصدى لمكر المكيدين لدينه ومساجده، مصداقاً لقوله عز وجل: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف:8)
فالأمل معقود على أمة الإسلام وأبنائها أن يحافظوا على مسرى نبيهم، صلى الله عليه وسلم، وأن يبذلوا الجهود الحثيثة دون كلل لشد الرحال إليه، ليفوتوا على المكيدين له الفرص، حتى يجدوا لأنفسهم حجة عند الله لما يسألهم عن مسجدهم الذي حملوا أمانة حفظه ورعايته.
وبهذا القدر التذكيري نختم الحديث عن الإسراء من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك، والعروج إلى السماء بالنبي محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
28 رجب 1445هـ

تاريخ النشر 2024-02-09
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس